فان جوخ وعوامل الحماية: كيف أنقذه الفن والحب من ظلام المرض النفسي؟

كتابة: أ. ندى رأفت تحرير: د. مروه عزت

عندما نسمع اسم فنسنت فان جوخ، يتبادر إلى ذهننا الفنان الهولندي العبقري صاحب ليلة النجوم وحقول القمح الصفراء، لكن خلف الألوان المبهرة، كان هناك رجل يعاني من اضطرابات نفسية عميقة، وعزلة، وتقلبات مزاجية انتهت بانتحاره في سن السابعة والثلاثين.

قصة فان جوخ ليست مجرد مأساة فنان عبقري، بل هي مرآة نرى فيها عمق التجربة الإنسانية، وكيف يمكن للإنسان أن يصمد رغم الألم. فهي تفتح لنا نافذة على أهمية ما يُعرف في علم النفس بـ عوامل الحماية - Protective Factors التي تمنحنا القوة على الاستمرار.

ما هي عوامل الحماية؟

عوامل الحماية هي تلك الجوانب في حياة الإنسان التي تساعده على التماسك رغم الألم النفسي. قد تكون: وقد تكون:

  • دعم من شخص مقرّب.
  • هواية أو شغف يحوّل المعاناة إلى معنى.
  • إيمان روحي أو قيم شخصية عميقة.
  • أو حتى مجرد إحساس أن هناك من يفهمنا ويقبلنا كما نحن.

هذه العوامل لا تمنع المرض النفسي من الظهور، لكنها تخفف من شدته وتخلق مساحات صغيرة من الأمل، كأنها خيوط رفيعة من الضوء تتسلل إلى غرفة مظلمة، فتمنح القلب دفئًا، والعقل لحظة تنفّس وسط العتمة.

عوامل الحماية في حياة فان جوخ

رغم العزلة والرفض الاجتماعي اللذين عانى منهما، كان لدى فان جوخ عاملان أساسيان ساعداه على الاستمرار بعض الوقت:

  1. الفن: الرسم لم يكن مجرد مهنة، بل وسيلة حياة. في لوحاته، حوّل فان جوخ الألم الداخلي إلى صور من النور والحركة. كانت اللوحة بالنسبة له مساحة للتنفس وسط الضيق، ونافذة على عالم آخر يملؤه الجمال حتى وهو ينهار من الداخل. كل ضربة فرشاة كانت بمثابة محاولة للبقاء، وكل لوحة شهادة على أن الإبداع يمكن أن يكون خط حياة يربطنا بالوجود.

  2. أخوه ثيو: العلاقة بين فان جوخ وأخيه مثال على قوة الدعم الإنساني. ثيو لم يكن فقط سندًا ماديًا، بل كان القلب الذي آمن بموهبة أخيه حين لم يؤمن بها العالم. رسائلهما التي وصلتنا تكشف عن علاقة مليئة بالحب، والقلق، والإيمان. في أصعب لحظات فان جوخ، كان وجود ثيو بمثابة اليد التي تمنعه من السقوط الكامل.

هذان العاملان لم يشفيا فان جوخ من معاناته، لكنهما أبقياه صامدًا، ومنحاه القدرة على أن يترك للعالم إرثًا فنيًا لا يُقدَّر بثمن.

حين يصبح الألم طريقًا للضوء

الألم ليس دائمًا عدوًّا، بل قد يكون المعلم الأول لاكتشاف الذات. لم يهرب فان جوخ من أوجاعه، بل استخدمها كلون جديد في لوحاته، حيث حوّل اضطرابه النفسي إلى طاقة خَلق، ومحاولة مستمرة لفهم العالم من حوله عبر الضوء والحركة واللون. في كل لوحة كان يرسم جزءًا من روحه الممزقة، وكأنه يقول للعالم: "ما زلت أرى الجمال رغم كل شيء."

تُذكّرنا تجربته بأن الألم يمكن أن يكون بداية التحوّل، وأن ما يهددنا بالانكسار قد يصبح سببًا في نضجنا ونظرتنا العميقة للحياة. فحين نجد وسيلة للتعبيرعن مشاعرنا، يصبح الألم أكثر احتمالًا، ويتحوّل من عبء إلى معنى.

أبعاد إنسانية أعمق

قصة فان جوخ تضعنا أمام حقيقة أن الإنسان ليس فقط مرضه، ولا آلامه، بل أيضًا قدرته على الإبداع والاتصال بالحياة من جديد. فالمرض النفسي قد يعزلنا مؤقتًا، لكن عوامل الحماية تعيد وصلنا بأنفسنا وبالآخرين وبالمعنى الأعمق للوجود.

ربما لم يجد فان جوخ العلاج المناسب في زمنه، لكن لوحاته كانت علاجًا بطريقتها الخاصة، ورسائله مع أخيه كانت جلسات دعم حقيقية، وهنا تظهر الفكرة الجوهرية: أن عوامل الحماية ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لأي شخص يعاني.

ابحث عن عوامل حمايتك

من السهل أن ننظر إلى قصة فان جوخ كحكاية مأساوية فقط، ولكن الأعمق أن نرى فيها دعوة للتأمل في حياتنا نحن، واستلهام بعض الوسائل التي تساعدنا على حماية أنفسنا:

  • ابحث عن وسيلة تعبير: لا يجب أن تكون فنانًا عبقريًا لتستخدم الفن كعلاج، ربما تجد نفسك في الكتابة، أو الموسيقى، أو الرياضة، أو حتى في زراعة النباتات. التعبير يحرر الروح من ثقل الألم.

  • تمسك بالداعمين في حياتك: ربما يكون هذا الشخص صديقًا قديمًا، أو أحد أفراد العائلة، أو حتى معالجًا نفسيًا. وجود شخص واحد يؤمن بك قد يغيّر مسار حياتك بأكملها.

  • كن أنت عامل حماية لغيرك: أحيانًا نظن أن دعم الآخرين يحتاج إلى معجزات، لكنه في الحقيقة يبدأ بكلمة طيبة، وبحضور صادق، أو بابتسامة مطمئنة. قد تكون أنت الفرق بين سقوط أحدهم واستمراره.

  • تذكر أن المرض النفسي لا يُلغي قيمة الإنسان: فان جوخ كان يعاني، لكنه في الوقت نفسه ترك بصمة غيّرت تاريخ الفن. المرض النفسي لا يُعرّفنا بالكامل، بل هو جزء من رحلة أكثر اتساعًا.

قصة فان جوخ تذكّرنا أن وراء كل معاناة إنسانية، هناك دائمًا إمكانيات للحماية والأمل. إذا كنت تعاني، فتّش عن عوامل الحماية في حياتك، هواية، صديق، معنى، أو مكان يمنحك السكينة.

وإذا كنت تعرف شخصًا يمر بأزمة، حاول أن تكون له "ثيو"، الداعم الذي يخفف عبء الرحلة. فكما أضاء فان جوخ الليل بلوحاته، يمكن لعوامل الحماية أن تضيء عتمة المرض النفسي، وتعيد للروح بعضًا من دفئها المفقود.