فن الإصغاء للطفل: كيف يتحوّل سلوك صغيرك إلى لغة نجاة؟

كتابة: أ. لواندا محمود تحرير: د. مروه عزت

طفلة في السابعة من عمرها تقف أمام بوابة المدرسة، تردد بصوت خافت شبه مسموع: "أمي... لا أريد الذهاب." اعتقدت الأم—التي تمثل ملايين الأمهات حول العالم—أنها حالة عابرة من الكسل أو التمرد الطفولي المألوف، وأنها ستزول ببعض الحزم، فأدخلتها الصف قسرًا. كان المشهد خالياً من نوبات البكاء أو الشكوى المباشرة؛ الطفلة لم تكن تصرخ، لكنها كانت تشد على ملابسها، تعض شفتيها، وتطيل النظر إلى الأرض.

لم يكن هذا إلا سلوكاً بسيطاً في ظاهره، لكنه كان يحمل في طياته عالماً كاملاً من المشاعر العاصفة التي تعجز عن النطق. كان جسدها يتحدث بلغة صامتة، لغة يغفل عنها غالبية الكبار. ومع توالي الأيام، لم يتغير المشهد إلا نحو الأسوأ. اتصلت المعلمة لتقول: "الطفلة أصبحت منعزلة، تفتقر إلى التركيز في الأنشطة، وتوقفت عن اللعب والمشاركة." عند هذه النقطة فقط، بدأت الأم رحلة الاستماع الحقيقية، وبدأت خيوط الحكاية تتكشف، لتثبت أن الصمت كان في الواقع صرخة.

لغة الأطفال الصامتة التي نتجاهلها

إن الأطفال لا يمتلكون حصيلة لغوية كافية لقول: "أنا أشعر بالخوف" أو "هذا الموقف يشعرني بالضيق العميق." بدلاً من ذلك، يستخدمون جسدهم وسلوكهم للتعبير. إنها ترجمة فورية للخطر أو عدم الارتياح يطلقها الجهاز العصبي قبل أن يكتمل نمو الجزء المسؤول عن التعبير اللفظي في الدماغ.

المفردات السلوكية للغة الأطفال:

  • الرفض الواضح: "لا أريد الذهاب إلى هذا المكان/لقاء هذا الشخص."
  • التغيّر في أنماط النوم: كالأرق المتكرر أو الكوابيس المفاجئة.
  • الانسحاب والهدوء المفاجئ: التحول من طفل اجتماعي إلى طفل صامت ومنعزل.
  • التوتر الجسدي: شد الملابس، قضم الشفاه، العصبية المفرطة، أو حساسية غير مبررة للمس.
  • الشكوى المبهمة: "لستُ مرتاحًا"، "أشعر بالخوف من فلان"

وفقًا لإرشادات حماية الطفل الصادرة عن منظمة اليونيسف (UNICEF)، يعتبر السلوك هو أول علامة يمكن أن يشير بها الطفل إلى شعوره بالخطر أو الضرر، لأن جهازه العصبي يشعر بالتهديد قبل أن يتمكن العقل من صياغته في كلمات منطقية. هذه الإشارات ليست مظاهر لـ "الدلال" أو "العناد"، بل هي مفردات لغة المشاعر التي يتحدث بها الجسد نيابة عن اللسان.

الجذور النفسية لرفض الطفل الصامت

لماذا يلجأ الطفل إلى الرفض السلوكي دون القدرة على الشرح الوافي؟ الإجابة تكمن في المفارقة بين محدودية حصيلته اللغوية وضخامة إحساسه بالخطر والتهديد.

تؤكد المدرسة الإنسانية في علم النفس، التي يمثلها كارل روجرز وغيره، أن الطفل بحاجة ماسة إلى علاقة آمنة ومُستقرة ليشعر بالحرية في التعبير عن صوته الداخلي. إذا غاب هذا الأمان، أو شعر الطفل بأن بيئته غير مُرحبة أو غير مُصدّقة لمشاعره، فإن المشاعر تتحول لتتجسد في سلوكيات سلبية وملموسة: الرفض، والغضب، والانعزال، والتوتر، أو ما يُعرف بـ "التجمّد".

إن رفض الطفل أو عناده ليس دليلاً على أنه صعب المراس أو متمرد، بل هو دليل على أنه لم يجد بعد الشخص القادر على فهم ما يدور في عالمه الداخلي، ولم يجد قناة آمنة لتفريغ مشاعره المعقدة.

استجابة التجمّد - توقف الجسد غير الإرادي

من المظاهر السلوكية التي تحتاج إلى فهم عميق هي استجابة "التجمّد" (Freeze Response). يصف العديد من الأطفال تعرضهم لمواقف مرعبة بقولهم: "تجمدت مكاني... لم أستطع الحراك أو الكلام"، أو "كنت أسمع كل شيء، لكني عجزت عن النطق أو الحركة."

توضح منظمة اليونيسف أن استجابة التجمّد هي رد فعل دفاعي لا إرادي بحت، يفعّله الجهاز العصبي بشكل تلقائي في مواجهة الخطر الشديد الذي يتجاوز قدرة الطفل على المقاومة أو الفرار. وهذا التفاعل ليس له أي علاقة بموافقة الطفل أو رضاه أو حتى قوته أو ضعفه. ببساطة، يقرر الجسد -وليس العقل الواعي للطفل- التوقف عن الحركة في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة. إن عدم فهم هذه الآلية يوقع الكبار في فخ الحكم على الطفل بأنه "راضٍ" أو "موافق" لمجرد صمته وتوقفه عن الحركة.

لماذا يختار الأطفال الصمت كوسيلة للنجاة؟

الصمت في حياة الطفل ليس فراغاً؛ إنه قرار واعٍ أو غير واعٍ بالهروب وحماية الذات. هناك عدة دوافع تدفع الطفل إلى التزام الصمت بدلاً من البوح:

  • الخوف من العقاب أو عدم التصديق: يخشى الطفل أن يُعاقب على ما حدث له، أو أن يُقابَل بالإنكار والتشكيك، خاصة إذا كان الألم صادراً من شخص "من المفترض به أن يحمي الطفل".
  • الشعور بالخزي والذنب: قد يشعر الطفل بأنه هو المخطئ أو المتسبب في الأذى، بدلاً من إدراك أنه مجرد ضحية، وهذا الشعور يعزله ويدفعه للصمت.
  • الارتباك وعدم الإدراك: عندما يكون المؤذي شخصًا مقربًا، يحدث ارتباك عميق في نظام الأمان لدى الطفل يجعله غير قادر على ترتيب أفكاره لشرح الموقف.
  • غياب الشخص الآمن والمصدّق: كما أشار كارل روجرز، لن يحكي الطفل قصته أو يطلق صوته إلا لشخص يستوفي الشروط الأساسية للعلاقة العلاجية الآمنة: أن يستمع إليه، أن يصدّقه دون قيد أو شرط، وألا يحكم عليه أو يلومه. في غياب هذا الملاذ الآمن، يتحول الصمت إلى وسيلة نجاة ضرورية.

التكلفة الباهظة للصمت

عندما يُجبر الطفل على كبت صوته ومشاعره، يتجذّر هذا الصمت ليتحول إلى أعراض نفسية وجسدية ترافق نموه، وقد تظهر على شكل:

  • الانسحاب الشديد من العلاقات الاجتماعية وتجنب الناس.
  • حالة دائمة من الخوف والقلق المستمر.
  • اضطرابات في النوم (نوم متقطع أو كوابيس متكررة).
  • حساسية مفرطة من اللمس أو الاقتراب الجسدي.
  • كراهية الذات والتقليل من قيمتها.
  • توتر شديد ومبالغ فيه تجاه المواقف البسيطة.

تؤكد الدراسات الصادرة عن اليونيسف أن الأطفال الذين لا يتم تصديقهم، أو الذين تُقابل شكواهم بالاستخفاف، يكونون أكثر عرضة للاكتئاب والقلق بنسبة مضاعفة في المراحل العمرية اللاحقة. يحتاج الطفل أحياناً إلى شخص واحد فقط يوجه إليه جملة واحدة صادقة: "أنا أستمع إليك وأصدقك." هذه الجملة قد تكون نقطة تحول مصيرية في مسار حياته بالكامل.

كيف نتحول إلى نقطة أمان للطفل؟

يقع على عاتق الراشد مسؤولية تحويل علاقته بالطفل إلى حائط أمان لا يتصدع. وهذا يتطلب خطوات واعية ومدروسة:

  • الاستماع الهادئ وغير المنقطع: اجلس بمستوى الطفل، وتواصل معه بالعَين، وقل بوضوح: "أخبرني... ما الذي يزعجك؟" تجنب المقاطعة أو توجيه الأسئلة الاستنكارية.
  • تصديق الإشارة فوراً: ليس من الضروري أن يروي الطفل تفاصيل الحدث لكي نصدق إحساسه بالضيق. الإحساس بالخطر هو الحقيقة الأولى، ويجب التعامل معه على هذا الأساس.
  • مراقبة السلوك بتمعن: السلوك في هذه الحالة هو أصدق شاهد وأصدق دليل. راقب التغيرات في أنماط الأكل والنوم واللعب والتفاعل الاجتماعي.
  • تجنب الضغط أو الإكراه: لا تُجبر الطفل على الذهاب إلى مكان أو التعامل مع شخص يرفضه رفضًا واضحًا. الضغط يكسر صوته ويدفعه إلى الكبت، وصوت الطفل قيمة لا تُقدر بثمن.
  • طلب الدعم المتخصص: إذا استمرت إشارات الانسحاب أو الرفض لفترة طويلة، فإن التدخل المبكر ليس رفاهية، بل هو حماية أساسية لمستقبل الطفل النفسي.

إن الاستماع الواعي للطفل هو مفتاح لصحته النفسية، عندما يشعر الطفل بأنه مسموع ومُصدّق، ترتفع لديه مستويات الثقة، وينخفض التوتر الجسدي، وتهدأ استجابته العصبية، ويتوازن سلوكه. تغيرت حياة أطفال بأكملها عندما وجدوا أخيراً من يُصغي إليهم بقلبه ووعيه، لا بأذنه فقط. الأمان ليس خياراً إضافيًا؛ إنه حق أصيل وغير قابل للتنازل عنه لأي طفل، وجملة صغيرة نلتقطها، أو إشارة بسيطة نلاحظها، قد تكون كفيلة بإنقاذ حياة كاملة من الاضطراب.

كل طفل يستحق من يفهم صمته قبل كلامه، ومن يفتح له باباً للحكي دون خوف، ومن يكون له حائط أمان في عالم قد يكون أكبر وأقسى عليه.


المصادر:

منظمة اليونيسف (UNICEF). (توجيهات حماية الطفل).

منظمة اليونيسف (UNICEF). (الاستجابة لضحايا الإساءة من الأطفال – المؤشرات العاطفية والسلوكية).

فان دير كولك، ب. (2014). الجسد يسجل النقاط (The Body Keeps the Score).

بيري، ب. د. (2017). الصبي الذي تربى ككلب (The Boy Who Was Raised as a Dog).

روجرز، ك. (1961). في أن تصبح شخصًا (On Becoming a Person).

توجيهات الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) للاستجابة للصدمات لدى الأطفال.