في مقدمة الحلقة الثانية من مسلسل كتالوج، يمر مشهد قصير لكنه شديد العمق، حيث أمينة تخاطب يوسف بعتابٍ رقيق: "كام طبق قطايف مجبتوش؟ كام معلش سمعتها منك؟ كام فطار فاضلي معاك؟ إنت تعرف إذا كنت هاكون معاكم رمضان اللي جاي ولا لا."
قد يبدو كلامها شكوى عابرة، لكن خلفه يتجسد سؤال كبير: هل ما زال مفهوم الرجولة الذي ورثناه صالحًا للحياة الإنسانية الكاملة، أم أنه مجرد قالب صلب يحبس الرجل داخله؟
في لقطات قليلة، تكشف أمينة هشاشة معادلة تبدو عادلة على الورق: هو يعمل ليؤمّن البيت، وهي تنتظر وجوده الذي لا يأتي. بين إنجازاته المادية وغيابه العاطفي، تذوب تفاصيل صغيرة — طبق قطايف، كلمة "معلش"، أو إفطار جماعي — لكنها تُعبّر عن فجوة أكبر بكثير من مجرّد نسيان أو انشغال، هي الفجوة بين الحضور الفعلي والحضور الإنساني.
في هذا المشهد الصغير، تتكشف المفارقة التي يعيشها كثير من الرجال اليوم: حضور مادي يغيب خلفه غياب إنساني متزايد. ومن هذه الفجوة بالذات يبدأ السؤال: كيف حُصر الرجل في دور لا يُشبهه؟ وهكذا يبدأ كتالوج الرجولة في تكوينه: حين يتحول الحضور إلى واجب، لا إلى مشاركة.
آلة لا تعرف التوقف
منذ عقود طويلة، يُربّى الرجل العربي على أنه ماكينة إنجاز، عليه أن يؤمّن البيت، ويحمي الأسرة من الأخطار، ويخطط للمستقبل كأنه شركة تأمين، أو ماكينة صرّاف آلي (ATM) لا يحق لها أن تتعطل أو تطلب صيانة. أما مشاعره واحتياجاته الفردية، فهي مؤجلة أو ملغاة، ليس لأنه لا يشعر، بل لأنه تعلّم أن الشعور ضعف، وأن الضعف خطر على مكانته و”رجولته”. فيُسكِت صوته الداخلي الذي يقول: "أنا تَعِبت" أو "أريد أن أرتاح"، ويستبدله بصوت آخر أكثر صرامة وحزم: "استمر، لا تتوقف، لا تتعب".
هذا ليس مجرد عرف اجتماعي، بل كما يصف عالم الاجتماع بيير بورديو في كتابه الهيمنة الذكورية (1998)، هو «بنية ثقافية» تتجسد في تفاصيل الحياة اليومية حتى تصبح طبيعية، كأنها قدر لا يُسائل. الرجل، بهذا المعنى، لا يُسمح له أن يكون إنسانًا كاملاً، فهو مطالب دائمًا أن يكون "السند" حتى لو انهار داخليًا. يُنتظر منه أن يُمسك زمام الأمور مهما اشتدت الأعباء، وألا يعترف بالتعب، ولا يطلب المساعدة أو المساندة.
ومع هذا التحوّل إلى ماكينة، يبدأ الرجل تدريجيًا في فقدان الاتصال بجوانبه العاطفية، يتعامل مع الحياة بعقلٍ عملي ومنطقي، لكنه يفقد شيئًا من روحه كل يوم، وحينها، لم يعد كل ما يقدّمه قادرًا على الإجابة عن السؤال الأصعب: من هو حقًا؟ لا ما الذي يفعله. وفي هذا الفراغ العاطفي الذي يصنعه الإنهاك المستمر، يبدأ الرجل شيئًا فشيئًا في فقدان جزءٍ من ذاته وهو يحاول فقط أن يبقى واقفًا."
قد يبدأ بعض الرجال في البحث عن دفءٍ خارجي — علاقة جانبية، أو إعجاب عابر — لا رغبةً في الخيانة بقدر ما هي محاولة غير ناضجة لسدّ فراغٍ لم يتعلموا ولم يُسمح لهم بالتعبير عنه. إنها محاولة يائسة للشعور بأنهم ما زالوا أحياء، يُرى فيهم الإنسان لا الدور الذى يقوم به.
هذا بالطبع لا يبرر الفعل، لكنه يفسّر الاحتياج الذي يقف خلفه، احتياج لم يتعلم صاحبه كيف يتعرف عليه او يسميه أو يطلبه بصدق. وهكذا، حين يُمنع الرجل من التعبير عن احتياجه، يضيع في محاولات تعويض لا تُشبِع. هذا التحوّل لا يقتصر على العمل أو المسؤوليات المادية، بل يمتد إلى الطريقة التي يُحب بها الرجل، ويستمع بها، ويربي بها أبناءه. يصبح التواصل عنده أداءً وظيفيًا لا مشاركة وجدانية.
بين النية والأثر
لكن خلف هذا الإنهاك الدائم، يظل في قلب الرجل نية طيبة، فكثير من الرجال يسيرون في علاقاتهم حاملين كتالوج الرجولة القديم بكل إخلاص: يعملون، يخططون، يتنازلون، ويظنون أن هذا هو المعنى الكامل للحب والرجولة.
لكن وسط هذا الجهد النبيل، يتآكل شيء عميق في الداخل: المساحة التي تُعبّر عن الإنسان فيهم. الرجل يظن أن مسؤوليته هي أن “يوفّر” و”يحمي” و”يُصلح”، لكن المرأة تنتظر منه أن “يحضُر” و”يُصغي” و”يشارك”. هو يقضي ساعات أطول في العمل ليؤمّن مستقبل الأسرة، لكنها تراه يبتعد كل يوم أكثر عن حاضرهم.
هو يخطط لكل تفصيلة صغيرة خوفًا من الفوضى، بينما هي تتوق إلى عفوية بسيطة تشعرها بأنهما ما زالا حيّين معًا. ما يراه هو حبًا وحرصًا، تراه هي بعدًا وجفاءً. وبين النية الطيبة والأثر المؤلم، تتسع الفجوة الصامتة.
لم يتعلم معظم الرجال أن يقولوا «أنا محتاج»، أو «أنا مرهق»، أو حتى «أريد أن أعيش لحظة تخصني». وحين تأتيه زوجته بعتاب بسيط مثل: “كام طبق قطايف مجبتوش”، يستقبل الكلمات كأنها هجوم على كيانه كله، لا مجرد طلب بسيط.
كثيرون لا يدركون أن ما يفعلونه بدافع الحب والحرص، يُترجم أحيانًا كتحكم أو جفاء. المسافة بين النية والأثر تُربك الطرفين؛ فهو يرى نفسه يبذل كل ما يستطيع، وهي تشعر أنها تُهمَل وسط انشغاله المستمر. في هذا الفراغ، تضيع اللغة المشتركة التي يحتاجها الطرفان، ويتحول الحوار أحيانًا إلى صراع صامت بين من يفعل أكثر، ومن يحتاج أكثر.
وفي صمتٍ يومي كهذا "يعيش كثيرون داخل علاقاتهم كأنهم يُؤدّون أدوارًا لا يفهمونها."

مشهد صغير لكنه كاشف
ذات مساء، يجلس رجل في الأربعين من عمره على الأريكة، صامتًا بعد يوم طويل. تسأله زوجته بلطف: "ما بِك؟" فيبتسم ابتسامة صغيرة ويقول: "لا شىء". ليس لأنه لا يشعر بشىء، بل لأنه لا يملك اللغة ليصف ما يشعر به. هذا الصمت ليس برودًا، بل محاولة بدائية للبقاء على قيد التماسك.
في تلك اللحظة، يبدو أن كل ما تعلمه عن "الرجولة" يقف حائلًا بينه وبين ذاته؛ كأن الكلمات نفسها قد خانته، لكن ربما لم تخنه الكلمات بقدر ما خذلته اللغة التي لم يُعلَّمها يومًا.
اليوم يُطلب من رجال هذا الجيل أن يتعلموا لغة جديدة: لغة المشاركة العاطفية والتواصل الإنساني، وكما يوضح كارل روجرز في كتابه On Becoming a Person (1961)، فإن التحول النفسي لا يحدث إلا عندما يُقابَل الإنسان بقبول وتراحم، لا بإدانة ولوم مستمر. فالرجل لا يستطيع أن يتغيّر لأنه "مطلوب منه"، بل لأنه وُجد في مساحة آمنة تسمح له بأن يكون صادقًا مع ذاته دون خوف من الرفض أو السخرية.
لكن المشكلة أن الرجل لم يُمنح في طفولته أدوات هذه اللغة. كان مطلوبًا منه أن يكون "سندًا"، لكنه لم يُسمح له أن يكون "إنسانًا". ولذلك فإن إعادة التعلم في منتصف العمر ليست سهلة؛ إنها أشبه بتعلّم نطق حروف جديدة بعد أن اعتادت عضلاتك على لغة واحدة طوال حياتك. وربما تكون هذه اللغة الجديدة هي بداية شفاءٍ مشترك لرجالٍ ونساءٍ أنهكتهم الصلابة أكثر مما حمتهم.
التراحم قبل المحاسبة
وهنا تأتي الفكرة الجوهرية: نحن بحاجة إلى النظر إلى الرجل بتراحم، لا لنُسقط عنه المسؤولية، بل لنفهم أن تحوّله ليس زرًا يُضغط، فيتغير. إنه مسار طويل، مليء بالمقاومة والدفاعية والارتباك. اللوم وحده لا ينتج تغييرًا، بل ربما يُدخل الرجل أكثر في قوقعته الدفاعية، بينما التشجيع على الخطوات الصغيرة – حتى لو بدت غير كافية – هو ما يفتح الباب.
تقول الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) في إرشاداتها حول التعامل النفسي مع الرجال (2018): "الاعتراف باحتياجات الرجل العاطفية خطوة جوهرية في تحسين صحته النفسية وعلاقاته." التراحم ليس فعلًا ضخمًا أو عاطفة شعورية، بل ممارسة صغيرة. أن تترك مساحة لزميلك ليتنفس، أن تقول "أنا لست بخير" دون خوف من الحُكم، أن تُصغي بدل أن تُقارن.
قد يكون التراحم في أن يعتذر أب لابنه بدلاً من أن يتسلح بسلطة الأبوة، أو أن يدعم صديق صديقه بدلاً من أن يسخر منه، أو أن يسمح مدير لفريقه بأن يخطئ ويتعلم بدلاً من أن يُعاقب. حين يتحول هذا الوعي إلى ثقافة، يصبح المجتمع أكثر أمانًا، فالتراحم ليس فقط هدية نمنحها للآخر، بل استثمار في إنسانيتنا المشتركة.
خطوة للأمام رغم الصعوبة
اليوم، هناك وعي مجتمعي متنامٍ يحاول أن يعيد تعريف الرجولة، ليشمل الإنسانية الكاملة لا مجرد الأدوار الجامدة. هذه الحركة لا تزال في بدايتها، لكن وجودها في حد ذاته نقلة كبيرة. الرجال يواجهون تحديًا ثقيلًا في الخروج من أسر الموروثات، والنساء في انتظار أكثر مما هو متاح. لكن بدلًا من أن يتحول هذا الفارق إلى جدار من الغضب، يمكن أن يكون جسرًا من التشجيع.
فالرجال لا يتهربون من المسؤولية بقدر ما يحاولون تعلم مسؤولية جديدة: مسؤولية الحضور الإنساني، وهذه مسؤولية تحتاج وقتًا، وصبرًا، وتراحمًا.
"حين نمنح الرجل مساحة ليكون إنسانًا، نربح جميعًا: أسرًا أكثر دفئًا، وأبناءً أكثر طمأنينة، ومجتمعًا يرى في الرجولة قلبًا نابضًا لا درعًا صلبة."
المصادر:
* بورديو، بيير. الهيمنة الذكورية (1998/2001).
* Rogers, Carl. On Becoming a Person. Houghton Mifflin, 1961.
* American Psychological Association. Guidelines for Psychological Practice with Boys and Men. APA, 2018