كيف تؤثر أنماط تعلقنا على علاقاتنا الحميمة؟

أنماط تعلقنا تمثل مدى شعورنا بالأمان في القرب من الآخر ومدى تكيفنا مع البعد عنه وتحدد المسافات التي نضعها بيننا وبين الشريك حماية لأنفسنا من الألم، كما تؤثر أيضاً بشكل كبير على مدى  الانكشاف والصدق مع الآخر و على توقعاتنا منه و كيفية  تفاعلنا معه عند ذوبان المسافات.

في هذا المقال ستتعرف على أنماط التعلق الأربعة، مع أمثلة عملية عليها، وكيف يساعدك الوعي بها على بناء علاقات عاطفية صحية تعزز من صحتك النفسية واستقرارك الداخلي.

ما هي أنماط التعلق؟

في بدايات حياتك ومن خلال علاقتك بوالديك أو مقدمي الرعاية يتشكل نمط تعلقك حسب ما تم تقديمه لك من حب ورعاية وحماية. تعرض الطفل للإهمال أو الحرمان العاطفي في سنوات عمره الأولى يشكل نمط تفاعله في علاقاته فيما بعد وخاصة العلاقات الحميمة، كما يؤثر أيضًا على قدرته على استقبال ومنح الحب وعلى معنى الحب بداخله.

ما هو التعلق العاطفي (Attachment Style)؟

نمط التعلق هو الطريقة التي تتفاعل بها مع الآخرين عاطفيًا وتستقبل وتمنح الحب والثقة من خلالها خاصة في العلاقات القريبة، كما يعبر عن مدى الثقة في الاعتماد على الآخر دون إفراط أو مبالغة في الاستقلال.

تعود جذور هذا المفهوم إلى نظرية "جون بولبي"، والتي طورتها لاحقًا العالمة "ماري اينسورث"، حيث قُسّمت أنماط التعلق إلى أربعة أنماط رئيسية:

1. التعلق الآمن (Secure Attachment)

عندما تمتلك هذا النمط، تشعر بالراحة في الانكشاف والتعبير عن مشاعرك بصدق، ويمكنك تحقيق الاعتماد المتبادل مع الآخر باتزان، دون خوف من رفض أو هجر.

2. التعلق القلق (Anxious Attachment)

يتسم بالخوف المستمر من الفقد أو الرفض، ويُفقدك الشعور بالأمان والثقة في كونك مقبولًا كما أنت، ويدفعك إلى طلب الطمأنينة الزائدة والتأكد الدائم من الحب.

3. التعلق التجنبي (Avoidant Attachment)

يميل أصحابه إلى تجنب القرب العاطفي خوفًا من ألم الهجر أو الرفض المتوقع. قد يشعرون بعدم الارتياح عند الحديث عن المشاعر أو عند اقتراب المسافات مع الشريك.

4. التعلق غير المنظم (Disorganized Attachment)

ينشأ غالبًا من تجارب صادمة، وهو النمط المتقلب بين القلق والتجنب، مما يؤدي إلى سلوك غير متوقع في العلاقات ويؤثر بشكل كبير على التوازن النفسي.

كيف تؤثر أنماط التعلق على العلاقات العاطفية؟

1. نمط التعلق الآمن: يبني صاحبه علاقة مستقرة يشعر فيها بالثقة والقبول، مع الإحساس بالأمان والقدرة على الانكشاف والتلقائية، كما يتمكن من التعامل مع الصراعات بهدوء واتزان.

يشعر المُتعلق الآمن بـ:

الأمان والانفتاح مع الشريك.

الارتياح في التعبير عن الاحتياجات العاطفية.

احترام حدود الآخر والتجاوب مع رغباته.

علاقة حميمة ممتعة ومرتبطة بالحب والتواصل.

تقدير القرب الجسدي كوسيلة للتواصل العاطفي وليس فقط للمتعة الجسدية.

المرونة والتفهم لاختلاف الرغبات أو فترات التوتر.

مثال:

سارة ويوسف زوجان منذ ٣ سنوات، عندما يتعرض يوسف لضغوط في عمله يشارك سارة مشاعره، وهي بدورها تستمع وتدعمه. أثناء العلاقة الحميمة يسود التفاهم بينهما ويعبر كل طرف عن رغباته بوضوح دون خوف من تحسس الطرف الآخر أو شعوره بالرفض. في النهاية يصل الطرفان إلى حالة من الرضا والإشباع كونه حراً في التعبير عن مشاعره ورغباته، ويجد من الآخر إستجابة مناسبة لاحتياجاته، مما يعزز الدفء العاطفي بينهما.

2. نمط التعلق القلق: يشعر صاحبه بقلق مفرط إذا لم يتلقَّ استجابة سريعة من شريكه، كما يحاول إرضاء شريكه بشكل مبالغ فيه قد يدفعه لتجاهل رغباته الحقيقية وتفضيلاته الحقيقية. أيضًا، يخشى الانكشاف بصدق خوفًا من الرفض أو الهجر، وقد يظهر سلوكيات تعلّق مفرطة مثل التمسك أو المراقبة، حتى أنه قد يفسّر أبسط الإشارات و التصرفات الطبيعية على أنها تهديدات للهجر.  


يشعر المُتعلّق القلق بـ:

الحاجة المستمرة للطمأنة والشعور بأنه محبوب ومرغوب.

الحاجة لاستخدام العلاقة الحميمة كوسيلة لإثبات الحب وليس تعبيرًا عنه.

شدة التعلق والغيرة.

قد يستخدم العلاقة الخاصة لتقليل القلق أو كطريقة لضمان القرب.

لديه حساسية شديدة لأي رفض .

عدم الكفاية، أى أنه "غير كافٍ" لشريكه.

لا يمكنه التعبير بحرية وصدق عن احتياجاته ورغباته. 


وهذا يؤدي به إلى:

أن يصبح إرضائياً أو خاضعاً في العلاقة، يقدم الكثير من التنازلات لإرضاء الشريك و ضمان القبول وتجنب الرفض. 

أن يعتمد عاطفيًا على الشريك بشكل مبالغ فيه، فيصبح ملتصقاً به، خائفًا من الهجر، شديد اليقظة لأي إشارة توحي بحدوثه.

أن يصعب عليه التعامل مع مشاعره بهدوء فقد ينفجر غضباً لأسباب بسيطة يفسرها كإشارات رفض من الشريك، أو يصاب بنوبات قلق وهلع شديدة لمجرد تأخر الشريك في الرد مثلاً على رسائله أو مكالماته. 

مثال:

عندما يتأخر حبيبها قليلًا في الرد على رسائلها، تشعر  "مريم" بأنه يبتعد عنها ولا يرغب في البقاء معها ، فتبدأ بإرسال الرسائل بشكل كثيف وتطلب منه طمأنتها بأنه متاح، تثور غضباً عندما يتأخر أكثر وتبدأ في الاتصال بشكل هيستيري. يشعر شريكها بالضغط الشديد من خوفها وقلقها الدائم رغم طمأنتها باستمرار، ويبدأ في الانسحاب تدريجيًا، مما يزيد قلقها وحزنها ويجعلها غير قادرة على التعامل مع مشاعرها العارمة. 

3. نمط التعلق التجنبي: يتجنب هذا النمط مشاعر الألم الناتجة عن الرفض أو الهجر، لذا يفضل العلاقات السطحية عوضًأ عن العميقة، حتى يتجنب آلام الفقد.

يشعر المُتعلق التجنبي بـ:

يتجنّب الالتزام العاطفي العميق، حيث يفضّل الاستقلالية الزائدة، وقد يبدو باردًا أو غير مبالٍ.

يواجه صعوبة في التعبير عن احتياجاته أو التعامل مع مشاعره.

يتجنب القرب العاطفي المفرط.

يضع حدودًا واضحة، حتى مع الشريك.

يشعر بعدم الراحة مع الانكشاف العاطفي أو التعبير عن الضعف.

مثال:

كريم متزوج ولديه طفلان، لكن زوجته تشعر دائمًا أنه غير متاح عاطفيًا. فهو يتجنب التعبير عن مشاعره، و يفضل الانسحاب كلما طالبته بقضاء وقت معًا، كما أنه لا يفضل مشاركتها همومه ومشاكله، بل يفضل الاستقلال التام ووضع المسافات بينهما، مما يُشعر زوجته بأنه غير مهتم وغير مبال بمشاعرها تجاهه، أما في العلاقة الحميمة، قد يَظهر بارداً أو منسحباً، مما يسبب الألم لزوجته. 

4. نمط التعلق غير المنظم: هذا النمط ببساطة يتأرجح ما بين النمطين السابقين، لذا فصاحبه يرغب في القرب لكنه يخشاه بشدة ، فُيظهر سلوكًا متناقضًا، مثل التقرب ثم الانسحاب. غالبًا ما يتعرض هذا النمط لصدمات أو علاقات غير مستقرة في الطفولة. 


يشعر المُتعلق غير المنظم بـ:

تأثر كبير بالتجارب العاطفية السلبية السابقة.

قد يكرر أنماط العلاقة المؤذية أو يعاني من صعوبة في الثقة بالآخرين.

صراع داخلي بين "أنا أحتاجك" و"أنت خطر".

مشاعر الخوف أو الارتباك بدل من الراحة في العلاقة الحميمة.

مثال:

نهى فتاة في ال 25 من عمرها، تزوجت بعد علاقة عاطفية، مرّت بتجربة عنف نفسي وجسدي  في الطفولة، تحب نهى زوجها لكنها تتوتر من القرب، وتشعر أحيانًا بالخوف أو بالذنب، تنسحب ثم تعود فتقترب منه بشوق، مما يُشعر شريكها بالارتباك وعدم الاستقرار وهذا بالتالي يودي بها للشعور بالذنب. لا تستطيع نهى الاعتماد على زوجها في إشباع احتياجاتها العاطفية، لكنها أيضًا تشعر بالرغبة الشديدة في الاقتراب منه والتعبير عن مشاعرها نحوه. تعيش نهى حالة من عدم الاستقرار والتأرجح الدائم ما بين رغبتها في القرب و خوفها منه. 

لماذا فهْم أنماط التعلق مهم في العلاقات العاطفية؟

في العلاقات الحميمة يتوقف شعورنا بالإشباع والرضا على مدى شعورنا بالأمان وقدرتنا على الانكشاف والصدق والتخلي عن الأقنعة، فكلما زاد شعورنا بالأمان والثقة في أن نكون مقبولين كما نحن دون تكلف، كلما زاد شعورنا بالرضا والاكتمال. لذا فوعينا بنمط تعلقنا يساعدنا على فهم أنفسنا بعمق وفهم العقبات التي تقف في طريق إشباع احتياجنا للقرب والدفء والتفهم، مما يفتح أمامنا الطرق لتخطي تلك العقبات. كما يساعدنا فهم شريكنا ونمط تعلقه على التفهم والتعاطف وفهم ما وراء سلوكه نحونا مما يمنحنا الفرصة للارتقاء بعلاقتنا لما يمكنه إشباع احتياجاتنا بشكل أفضل والوصول لعلاقة أكثر أماناً واستقراراً. 

هل يمكن تغيير نمط التعلق؟

نعم، أنماط التعلق ليست حكمًا نهائيًا، بل يمكن العمل على تعديلها من خلال:


العلاج النفسي، خصوصًا العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج المرتكز على التعلق.

الوعي الذاتي، من خلال مراقبة أنماط التفكير والسلوك في العلاقات.

العلاقات الصحية، حيث يمكن للشريك الآمن أن يساعد في شفاء النمط القلق أو التجنبي.


هذه الممارسات تساعد على تعزيز الصحة النفسية وبناء علاقات أكثر أمانًا واستقرارًا.

أنماط التعلق هي المرآة التي تعكس طريقة حبنا، مخاوفنا، واحتياجاتنا، فهمها والعمل على تطويرها يفتح الطريق أمام علاقة قائمة على الأمان والثقة والصدق، ويمنحنا القدرة على العيش بحالة من الدعم النفسي المتبادل.


تعلم المزيد حول "العلاقات الحميمة" مع د. هند محمود على منصة بالعربي توداي

https://belaraby.today/slides/l-lqt-lhmym-14

العلاج بالمعنى: هل سألتَ نفسك يومًا: لِمَ أنا هنا؟