الأمومة رحلة إنسانية فريدة تجمع بين مشاعر الحب والرعاية وبين مسؤوليات يومية لا تتوقف. وسط هذا كله قد تجد الأم نفسها محاصرة بشعور دائم بالذنب وكأن كل ما تفعله لا يكفي.
هذا الشعور بالذنب من أكثر ما يرهق الصحة النفسية للأمهات، فيضاعف عليهن الضغوط اليومية ويزيد إحساسهن بالتوتر. في هذا المقال سنقترب أكثر من أسباب شعور الذنب عند الأمهات وتأثيره على التوازن النفسي، مع خطوات عملية تساعدك على تجاوزه واستعادة هدوئك الداخلي.
لماذا يطارد الأمهات شعور الذنب؟
شعور الذنب لا يرتبط بالضرورة بتقصير حقيقي، إنما في كثير من الأحيان ينبع من صورة مثالية رسمها المجتمع ووسائل الإعلام عن “الأم الكاملة” التي لا تخطئ أبدًا. فكرة أن النساء يمتلكن مجموعة من “الغرائز الأمومية” الجاهزة للعمل بمجرد الحمل والولادة، وأن الأم الجيدة قادرة على القيام بكل شيء بمفردها، مدفوعة بحب غير أناني، تجعل الأم تشعر بأنها مهما فعلت فلن تكون كافية، لأنها تحاول مواكبة توقعات غير منطقية من المجتمع.
من أبرز الأسباب التي تدفع الأم للشعور بالذنب:
- التنشئة الاجتماعية:
منذ أن كنا فتيات صغيرات، ارتبط إحساسنا بالأمان العاطفي والقبول والاستحسان، بقدرتنا على تلبية احتياجات الآخرين والتصرف بلا أنانية. ومع الوقت يتعزز لدينا اعتقاد أن قيمتنا وحب الناس لنا يقاسان بمدى قدرتنا على العناية بالآخرين، وهو ما يجعل كثير من الأمهات يشعرن بالذنب إذا فكرن في أنفسهن أو احتياجاتهن.
- التوقعات الداخلية:
كثير من الأمهات يضعن معاييرًا عالية لأنفسهن، مما يضاعف مشاعر الذنب لديهن حتى مع الأخطاء الصغيرة.
- المقارنة بالآخرين:
ما يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي من صور لأمهات مثاليات، هو جزء صغير من الواقع، لمحة قصيرة منتقاة بعناية، وغالبًا لا يعكس الصورة الكاملة للحياة اليومية التى يعشنها فعليًا.
- الضغط المجتمعي:
التعليقات المستمرة من الأقارب والمعارف حول أسلوب التربية أو تغذية الطفل وغيرها، قد تضعك في دائرة شك لا تنتهي، حول قراراتك واختياراتك لطفلك.
- التعب والإرهاق:
الأم قد تُنهَك من المسؤوليات المتعددة، وعندما تغضب أو تفقد صبرها نتيجة التعب، تشعر بالذنب وكأنها فشلت في دورها بأكمله.
- الشعور بالملل:
قد ينتابك إحساس بالذنب إذا شعرت الأم بالملل أو رغبت في أخذ وقت بعيدًا عن أطفالها، رغم أن هذا أمر طبيعي ولا ينتقص من حبها لهم.
أثر المقارنات والضغط المجتمعي على الصحة النفسية
المقارنات المستمرة لا تترك مجالًا للراحة. قد تجدين نفسك تفكرين بحيرة في كل قرار صغير: طريقة نوم الطفل، نظامه الغذائي، أو حتى مستوى دراسته لاحقًا. هذه الأفكار المتكررة قد تتحول إلى تفكير زائد يرهق العقل ويزيد من مستويات القلق، ومع الوقت، قد يؤدي هذا الضغط إلى أعراض مثل:
- صعوبة النوم.
- فقدان التركيز.
- تقلبات في المزاج.
- وصولًا إلى مشكلات أكبر مثل القلق أو الاكتئاب.
مفهوم “الأم الجيدة بما يكفي”
قدّم عالم النفس دونالد وينيكوت مفهومًا مهمًا يُسمى “الأم الجيدة بما يكفي”. هذا المفهوم لا يعني الإهمال أو اللامبالاة، بل يعني ببساطة أن الأم ليست مضطرة لأن تكون مثالية، وإنما أن تكون حاضرة ومتجاوبة مع احتياجات طفلها بمرونة ووعي.
أن تكوني “جيدة بما يكفي” يعني:
- الاستجابة لاحتياجات طفلك العاطفية والجسدية بقدر استطاعتك.
- تقبّل أن الأخطاء الصغيرة جزء طبيعي من الأمومة.
- التوقف عن السعي وراء الكمال الذي لا وجود له.
يرى وينيكوت أن الأخطاء الصغيرة أو التقصيرات الطبيعية في تلبية احتياجات الطفل ليست مجرد “هفوات”، بل هي جزء صحي من العلاقة بين الأم وطفلها. فهذه اللحظات تساعد الطفل تدريجيًا على:
- تحمّل الإحباط البسيط:
وهي مهارة أساسية تساعده لاحقًا على التعامل مع الإحباطات والمواقف الصعبة في الحياة الواقعية.
- تطوير الاستقلالية:
من خلال هذه المسافة الصغيرة بين توقعاته وما يحصل عليه فعليًا، يبدأ في اكتشاف قدراته الخاصة والاعتماد على نفسه تدريجيًا.
- بناء التكيف والمرونة:
يتعلّم أن العالم ليس كاملًا وأن العلاقات الطبيعية تتضمن تفاوتًا وأخطاءً، وهذا يجعله أكثر قدرة على التكيّف عاطفيًا واجتماعيًا.
كيف تتجاوزين شعور الذنب وتحافظين على صحتك النفسية؟
من الطبيعي أن تشعري أحيانًا بالذنب أو القلق من قراراتك اليومية، لكن المهم أن تتذكّري أنّ هذه المشاعر جزء طبيعي من الأمومة وليست مؤشرًا على فشلك. الاعتراف بهذه المشاعر والتعامل معها بوعي، يسمح لكِ بإعادة التوازن النفسي تدريجيًا، ويعطيك فرصة للاهتمام بنفسك كما تهتمين بطفلك.
فيما يلي بعض الأمور البسيطة التي قد تساعدك على التعامل مع شعور الذنب واستعادة هدوئك الداخلي:
- امنحي نفسك مساحة للراحة:
من حقك أن ترتاحي وتعتني بذاتك. تخصيص وقت قصير لنفسك — سواء للقراءة، الاسترخاء، أو حتى لشرب كوب قهوة بهدوء — ليس أنانية، بل ضرورة للحفاظ على توازنك.
- توقفي عن المقارنة:
تذكري أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تعرض الواقع كاملًا، ما ترينه هو لحظة مثالية في يوم طويل مليء بالتحديات.
- تقبّلي الأخطاء الصغيرة:
الأخطاء ليست دليلًا على أنكِ أم سيئة، بل هي فرصة للتعلم. وحتى طفلك يتعلم من هذه المواقف المرنة أن العالم ليس كاملًا.
- اطلبي الدعم النفسي عند الحاجة:
لا تترددي في طلب المساعدة. قد يكون الحديث مع صديقة مقربة أو أحد أفراد العائلة كافيًا، وأحيانًا يكون العلاج النفسي مع مختص هو الخيار الأفضل.
- حافظي على روتين صحي:
النوم الكافي، التغذية المتوازنة، والحركة اليومية عناصر أساسية تساعد على تعزيز الصحة النفسية والقدرة على التعامل مع الضغوط اليومية.
الأمومة ليست سباقًا للكمال، بل رحلة مليئة بالتجارب، والقرارات، والأخطاء التي تتعلمين منها مع طفلك. لا تدعي شعور الذنب يسرق منك اللحظة الحالية. تذكري دائمًا أن “الأم الجيدة بما يكفي” هي الأم الحاضرة، المتجاوبة، والمتعاطفة مع نفسها قبل غيرها، وهذا يكفي حقًا.
تعلّمي أيضًا عن نفسية الأم والطفل مع د.منار مبارز، طبيب أطفال وأخصائي سكر وغدد صماء وتغذية علاجية، في دورة "سنة أولى أمومة" على منصة بالعربي توداي
https://belaraby.today/slides/sn-wl-mwm-nfsy-lm-wltfl-25
تقدري كمان دلوقتي نحجزي في ورشة 100 حكاية عن الامومة الكافية
على يومين 4 اكتوبر و 11 اكتوبر لتفاصيل الورشة من خلال اللينك دا