هل تُقرّر كل مساء أن تغيّر حياتك وتبدأ بممارسة الرياضة، وتتناول الطعام الصحي في الصباح، ثم تستيقظ لتمارس عاداتك السابقة نفسها كأنك لم تقرر شيئًا بالأمس؟ هل تمارس عادة سيئة تود التخلص منها حقًا لكنك تعود إليها بعد كل محاولة، دون جدوى؟
ما الذي يحدث يا صديقي؟ لنفهم سويًا.
ما تخبرنا به نظرية التعلّم
"كل سلوك ينتج عنه نتائج محببة يتكرر، وكل سلوك ينتج عنه نتائج مزعجة ينطفئ"
ببساطة تلك هي مبادئ نظرية التعلّم الإجرائي ( Operant conditioning) لعالم النفس الأمريكي بي. إف. سكينر، ومفادها أن السلوك يتأثر بالنتائج المترتبة عليه، فإن كانت النتائج ممتعة، ما يُسمّى بالمعززات، تَكرّر السلوك، وإن كانت النتائج مزعجة، ما يُسمّى بالعقاب، تقل فرصة تكرار ذلك السلوك. فرّق سكينر أيضاً بين نوعين من التعزيز: التعزيز الإيجابي والتعزيز السلبي.

التعزيز الإيجابي هو إضافة مُحفِّزٍ مُحبَّب للفرد بعد قيامه بالسلوك المطلوب، كأن يُكافأ الطفل بقطعة حلوى بعد ترتيب غرفته، أو بابتسامة وثناء تشجعه على تكرار السلوك. أما التعزيز السلبي فهو إزالة مُثيرٍ غير مرغوب بعد أداء السلوك المطلوب، مثل توقف صوت إنذار حزام الأمان عند ربط السائق للحزام؛ إذ يؤدي اختفاء هذا الصوت المزعج إلى تعزيز سلوك ربط الحزام.
أما العقاب، من ناحية أخرى، فهو إما إضافة مُثير مزعج، أو إزالة مُحفِّز محبَّب بعد صدور السلوك غير المرغوب، بهدف تقليل احتمالية تكراره، مثل استخدام الضرب والحرمان من الحلوى.
تشكيل العادات
وفقًا للنظرية، فنحن نستطيع تشكيل أى سلوك جديد عبر إلحاقه بنتائج محببة لنضمن تكراره، أو إزالة شيء غير محبب كنتيجة لأداءه. ولكن تغيير نمط الحياة لنمطٍ صحيٍ هدف كبير، ويحتوي على العديد من العادات والتغيرات، فكيف لنا أن نبدأ به ونستمر؟ هنا تظهر أهمية مبدأ آخر وهو مبدأ التشكيل.
ما هو التشكيل؟
التشكيل هو تعزيز ومكافأة كل خطوة وكل سلوك يقترب من الهدف المرجو. إن كان الهدف كبيرًا أو طويل المدى، فعليك مكافأة كل خطوة صغيرة تُقرّبك منه، وإزالة المكافآت عن كل خطوة تبعدك عنه.
لنأخذ اتباع نمط حياةٍ صحي كمثال، ابدأ بمكافأة نفسك على الاستيقاظ المبكر أولاً، ثم كافئ نفسك على انتظام أوقات النوم، ثم على تغيير أحد وجباتك اليومية لوجبة صحية، ثم على إضافة الخضروات الطازجة ليومك، ثم على التخلي عن كمية من السكر في مشروباتك، وهكذا حتى تصل لهدفك النهائي من خلال تعزيز خطوات صغيرة نحو الهدف، وتعزيز ترك خطوات أخرى تبعدك عن الهدف.
كيف تكافئ نفسك على خطواتك الصغيرة؟
قم بوضع قائمة بالأشياء المحببة إليك على ألا تتعارض مع تحقيق هدفك، وقائمة أخرى بالأشياء التي لا تحبها ويمكن إزالتها كمكافأة لنفسك عند التقدم خطوة.
مثال: كتابة الإنجاز اليومي أو مشاركته مع أحد الأصدقاء قد يشجعك، رؤية فيلم مميز أو ممارسة هواية محببة قد يكون مكافأة جيدة في نهاية يومك. يمكنك أيضًا تأجيل بعض المهام غير الضرورية لليوم التالي كنوع من إزالة المحفزات المزعجة، ومكافأة نفسك على ما حققت اليوم. وبنفس الطريقة يمكنك التخلص من عاداتك السيئة.
من البديهي بعد فهمنا لطريقة تشكيل عادة جديدة أن ندرك أن أي عادة لدينا لابد أنها تحقق لنا لذة ما تجعلها تتكرر وتتسبب في استمرارها. قد ندرك نتائج عادة ما على المدى البعيد ونرى أنها تسبب لنا الكثير من الخسائر، فنقرر أنه من صالحنا التخلص منها، ولكن في ذات الوقت، تنتج ممارستنا لها شيئاً من اللذة أو المتعة التي تجعلنا نرتبط بها ونكررها حتى مع رغبتنا الصادقة في الإقلاع عنها.
مثلاً، قد يعلم المُدخن أضرار التبغ على صحته، بل وقد تبدأ صحته بالتدهور فعلاً، ويقرر التخلص من تلك العادة السيئة، لكنه دائماً ما يعود إلى التدخين ثانية، فماذا يحدث هنا؟ رغم إدراكه للضرر لكن المُعزز مازال موجوداً، المكافأة التي يحصل عليها جهازه العصبي من تهدئة القلق نتيجة لجرعة النيكوتين مازالت موجودة، وربما تكون أكثر قوة الآن من التفكير في العقوبة الآجلة (تدهور الصحة) أو العقوبة الحالية (الخسارة المادية)
ما الذي نستطيع فعله هنا لإنهاء تلك العادة؟
يمكننا تعزيز سلوك الإقلاع عن التدخين من خلال مكافأة فترات الانقطاع تدريجيًا، كأن يُكافأ الشخص بعد مرور ثلاث ساعات دون تدخين، ثم بعد خمس ساعات، وهكذا. ويُستحسن استخدام معززات محبّبة له شخصيًا، مع إبراز المكافآت الحالية والمستقبلية بوضوح، والتذكير المستمر بالهدف والأضرار المحتملة للتدخين. كما يساعد توظيف الخيال والصور الواقعية أو زيارة المرضى المتأثرين بالتدخين في ترسيخ الدافع الداخلي وتعزيز السلوك الصحي الجديد.
من المهم أيضًا استبدال عادة التدخين بسلوك صحي يساعد على تهدئة الجهاز العصبي، مثل ممارسة الرياضة أو تمارين التنفس البطيء، فهذه السلوكيات تمنح الجسم نفس الإحساس بالمكافأة الذي كان يحصل عليه من التدخين ولكن بطريقة آمنة وخالية من الأضرار. وينبغي كذلك التخلص من السلوكيات غير المحببة مثل لوم الذات أو توبيخها، واستبدالها بكلمات تشجيعية وجمل تعبّر عن تقدير التقدّم والإنجاز، مما يعزز الدافعية للاستمرار. كما يُستحسن تنويع المكافآت وجعلها غير متوقعة حتى لا تفقد تأثيرها مع الوقت بسبب التعود عليها.
ولم لا نستخدم العقاب؟
يُستخدم العقاب أحيانًا من خلال إضافة مثير غير محبب بعد السلوك غير المرغوب أو بإزالة شيء محبب، وقد يحقق ذلك أثرًا مؤقتًا في تقليل السلوك، لكنه لا يعلّم سلوكًا بديلًا مرغوبًا ولا يعزز الدافع الداخلي لدى الفرد. بل قد يؤدي الإفراط في استخدامه إلى زيادة المقاومة وخلق مشاعر الكراهية أو العداء. لذلك يُفضَّل الاعتماد على التعزيز الإيجابي والاقتصار على العقاب في أضيق الحدود. كما أن تكرار العقوبة أو ثباتها يفقدها فعاليتها مع الوقت نتيجة التعود عليها (habituation)، تمامًا كما تفقد المعززات قيمتها حين تصبح متوقعة.
قد يبدو الأمر بسيطًا، لكننا كبشر أعقد من ذلك قليلًا، فغالبًا ما لا تكون المكافآت والعقوبات مادية أو ظاهرة، بل معنوية داخلية. ولهذا قد نكافئ أنفسنا أو أبناءنا أو نعاقبهم دون أن نرى نتيجة واضحة. فمثلًا، قد تكرر عقاب ابنك المراهق على تأخره ليلًا، ومع ذلك لا يأتي في الموعد الذي ترغب فيه، لأن شعوره بالاستقلال أو المتعة في كسر القواعد يعمل كمعزز داخلي أقوى من العقوبة المفروضة عليه، مما يجعل سلوكه المتمرد يستمر رغم محاولات التغيير.
قد نجد أحيانًا أن بعض الأشخاص يتحملون عقوبات قاسية على أفعالهم أو أفكارهم دون أن يتراجعوا عنها، إذ يدفعهم تمسكهم بقيمة أو مبدأ شخصي إلى الصمود رغم الرفض أو النبذ الاجتماعي. فشعورهم بالرضا عن الذات والفخر بالموقف الذي اتخذوه يعمل كمعزز داخلي قوي يتجاوز أثر أي عقوبة خارجية، ولهذا يستمر سلوكهم وتبقى مبادئهم راسخة دون تغيير.
لذا، إذا لاحظت أنك تكافئ نفسك أو غيرك على سلوك ما دون أن يتكرر، فحاول أن تفهم كيف يُدرك الطرف الآخر تلك المكافأة: هل يراها فعلًا محببة ومُجدية؟ وعندما تعاقب نفسك أو شخصًا آخر على سلوك لا يتوقف رغم العقوبة، فغالبًا ما يكون في هذا السلوك مكافأة خفية ما زال يتلقاها، أو أن العقوبة نفسها لا تُدرك على أنها مؤلمة، بل تُعتبر وسيلة غير مباشرة لتحقيق رغبة أو قيمة يحبها الشخص. عندها يصبح الحل هو اكتشاف ما يشكّل المكافأة الحقيقية له، واستبدالها بمعززات صحية أو إزالة ما يثير النفور لديه بشكل فعّال.
في النهاية، تخبرنا مبادئ التعلم الإجرائي أن السلوك الذي يُكافأ يتكرر، بينما السلوك الذي لا يُكافأ ينطفئ مع الوقت. ولتشكيل سلوك جديد معقد أو طويل الأمد، علينا تعزيز كل خطوة صغيرة تقرّبنا من الهدف، فالتدرّج بالمكافآت يصنع الاستمرارية. كما يُفضَّل أن تكون المعززات غير ثابتة أو متوقعة حتى لا تفقد تأثيرها، مع ضرورة استبدال المعزز الذي يدعم السلوك غير المرغوب بآخر يدعم سلوكًا بديلًا أكثر فائدة. أما العقاب، فينبغي استخدامه في أضيق الحدود، إذ تبقى نتائجه مؤقتة وسطحية مقارنة بفعالية التعزيز الإيجابي في بناء الدافعية الداخلية.
المصادر:
- Pryor, Karen. Don't Shoot the Dog: The New Art of Teaching and Training. Bantam Books, 1999.
- ابن القيم الجوزية. روضة المحبين ونزهة المشتاقين. تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد، 1994.
- The Miracle Worker. Directed by Arthur Penn, United Artists, 1962.