كيف يساعدك تنظيم المشاعر على التخلص من الاندفاعية؟

كتابة: أ. مصطفى علي تحرير: د. مروه عزت

أحيانا قد تجد نفسك تتخذ قرارًا سريعًا أو تتصرف برد فعل غير محسوب، فقط لأن الموقف أثار فيك حماسًا أو غضبًا أو قلقًا، وفي الحقيقة هذا أمر طبيعي يمر به كل إنسان. لكن حين يتحول إلى نمط ثابت ومتكرر في الحياة اليومية، تبدأ آثاره السلبية في الظهور بوضوح: توتر داخلي لا يهدأ، خلافات مع الآخرين، قرارات تندم عليها لاحقا، وخسائر تمس علاقاتك أو عملك، أو حتى إحساسك بالسيطرة على حياتك.


في مقالنا عن الاندفاعية وإدارتها سنقوم بتعريفها وفهمها سلوكيًا وبيولوجيا، وعرض صورها المختلفة، وأيضًا سنتعرض إلى الحديث عن الاستراتيجيات العلاجية الفعالة، وعلى رأسها العلاج الجدلي السلوكي (DBT)، مع تمرين تطبيقي يمنحك الفرصة لتجربة كيف يمكن إدارة الانفعال بوعي وتحويل الاندفاع إلى استجابة متزنة.


ما هي الاندفاعية؟

الاندفاعية ببساطة هي الميل إلى التصرف بسرعة، والاستجابة غير المدروسة أو غير محسوبة العواقب، والتي غالبا ما يتبعها ندم وغضب موجه نحو النفس، بسبب خسائرها وعواقبها.


صور مختلفة للاندفاعية:

  • اندفاع الفعل: هو تصرف سريع تنفّذه رغم معرفتك أنه غير مناسب، مثل مقاطعتك الآخرين قبل أن ينهوا حديثهم.
  • اندفاع القرار: وهو ميلك لتفضيل المكافآت الفورية الصغيرة على المكافآت الأكبر المؤجلة، مثل إنفاق المال فورًا على متعة لحظية بدلًا من ادخاره لهدف مهم، أو تناول أطعمة غير صحية رغم الرغبة في الالتزام بنظام غذائي.
  • اندفاع الانفعال: عبارة عن استجابات عاطفية سريعة وقوية يصعب ضبطها تحت ضغط الانفعال، مثل الصراخ أو الضرب عند الغضب، قبل التفكير أو الانسحاب المفاجئ من علاقة بعد خلاف بسيط.

كسر دائرة الاندفاعية:

تسبب الاندفاعية خسائر كبيرة جدًا في كل جوانب الحياة، وأمام هذه الخسائر يصبح البحث عن استراتيجيات فعالة ضرورة للسيطرة على هذه المشكلة، ومن أهم هذه الطُرق، العلاج الجدلي السلوكي. هذا العلاج يفترض أن الاندفاعية عَرَض لخلل في تنظيم المشاعر والانفعالات، ويظهر في صورة استجابات سريعة هروبية أو مختصرة نتيجة الضغط، ويهدف العلاج إلى تعلم مهارات واستجابات تغني عن الاندفاع وتكسر الحلقة التي تؤدي إليه.

عند اختبار موقف مثير للانفعال، تبدأ بالشعور بموجة شعورية قوية من الغضب أو القلق أو الإحباط، هذه المشاعر هي نقطة الدخول في دائرة الاندفاعية، فهي تشعل التوتر والضغط الداخلي وترفع الاستثارة الجسدية والعقلية بسرعة، ومن ثم هنا يحدث الخلل: عدم القدرة على تسمية المشاعر بدقة، أو تحمّل شدتها، يجعلها تتحول من مجرد تجربة داخلية، إلى ضغط داخلي يدفعك نحو الفعل السريع.

إذن المشاعر ليست مشكلة في ذاتها، لكنها تصبح كذلك عندما لا تُفهم ولا تُدار بطريقة صحيحة، فعوضًا عن أن تعمل كإشارات تساعد على التوجيه وتحفيز التفكير لاتخاذ رد فعل مناسب، تتحول إلى قوة جارفة تسيطر على التفكير وتقصّر المسافة بين الموقف ورد الفعل دون المرور بمرحلة التقييم والتفكير.

يمكن علاج وكسر هذه الحلقة من خلال أربعة مهارات أساسية، تعرف (بمهارات تنظيم المشاعر) وهي جزء رئيسي في العلاج الجدلي السلوكي، هذه المهارات تساعد على استعادة التوازن العصبي في أدمغتنا، بين مراكز الانفعال السريع (اللوزة الدماغية Amygdala) ومراكز الضبط الواعي (القشرة الجبهية الأمامية Prefrontal Cortex)، بحيث لا تتحكم الانفعالات الشديدة والمشاعر الضاغطة في السلوك بشكل أعمى.

مهارات تنظيم المشاعر

سنتعرف عليها سريعا مع توضيح كيف يؤثر تعلمهم وتطبيقهم في أدمغتنا:

  • الوعي بالمشاعر: 

ملاحظة الانفعال عند بدايته، في لحظة الانفعال تنشط اللوزة الدماغية بسرعة كبيرة (الجزء المسؤول عن الشعور بالتهديد والخطر داخل المخ) لتسبب اندفاعًا في رد الفعل، وعبر تدريب إعادة الانتباه إلى اللحظة الراهنة سوف تتمكن من ملاحظة بداية هذه الاستجابة قبل أن تتصاعد، هذا الوعي المبكر يمنح القشرة الجبهية الأمامية (الجزء المسؤول عن التفكير والضبط والوعي في المخ) فرصة للتدخل وضبط الإشارة الانفعالية.

  • تسمية الانفعال: 

إعطاؤه وصفا دقيقا يقلل من غموضه وقوته. عندما يبقى الانفعال غير مسمى، تظل الاستثارة العصبية عالية، ويزداد نشاط الجهاز العصبي الذاتي. التسمية الدقيقة مثل: "أنا غاضب" أو "أنا قلق"، تخفف من فرط نشاط اللوزة، وتُفعّل مناطق لغوية ومعرفية في الدماغ تجعل تجربة الشعور والانفعال أكثر وضوحًا وأقل سيطرة على السلوك.

  • إعادة التقييم:

التفريق بين الانفعال كإشارة وبين القرار النهائي للسلوك. المشاعر غير المنظمة تجعل الدماغ يتعامل مع الانفعال كأمر طارئ يستوجب استجابة سريعة، ولكن من خلال إعادة التقييم، يتم تحويل الانفعال إلى إشارة يمكن التفكير فيها أولا، مما يعزز عمل القشرة الجبهية في فرز الموقف وتقدير النتائج طويلة المدى، ويقلل من هيمنة الاستجابات اللحظية التي يقودها الانفعال.

  • بناء استجابات بديلة: 

تحويل الطاقة الانفعالية إلى فعل أكثر توافقًا مع الأهداف طويلة المدى. في غياب هذه المهارة يظل الدماغ عالقًا في دائرة رد الفعل الفوري. بناء استجابات بديلة مثل (التوقف، التنفس، أو اختيار سلوك أكثر هدوءا) يخلق مسارات عصبية جديدة داخل الدماغ، تتيح له تحويل الطاقة الانفعالية إلى فعل أكثر توافقا مع أهدافك، ومع التدريب المستمر يصبح الدماغ أكثر قدرة على تجاوز الدوائر القديمة المندفعة وتفعيل أنماط أكثر نضجًا وتنظيمًا.

تطبيق عملي، جرّب معنا:

فكر في موقف تصرفت فيه دون تفكير أو حساب للعواقب، واتبع هذا التمرين البسيط. التمرين يعتمد على إبطاء تتابع الانفعال - الفعل، وإدخال محطة تفكير إضافية في حلقة الاندفاعية، عبر أسئلة توجِّه انتباهك من العاطفة الخام والضغط الداخلي إلى القرار الواعي.تعتمد الفكرة على أن تكتب أو تردد هذه الأسئلة على نفسك بصوت داخلي كلما شعرت بالاندفاع:

س1: بماذا أشعر الآن؟

أشعر بالغضب، القلق، الإحباط، الغيرة (الهدف هنا هو تسمية الانفعال بدقة، فعندما تسمّيه، ينتقل من مستوى الجسد والحدس إلى مستوى الوعي، وتقلل فرصة تحوله لضغط غامض غير مفهوم). استعن بدائرة المشاعر لتتعلم أسماءها.

س2: ما السبب المباشر لشعوري؟

شخص ما قال كلمة استفزتني، أو لم يتحقق ما كنت أريده (التركيز على المحفز الفعلي يمنع تضخيم الموقف وتصاعد الشعور بشدة، عبر ربطهم بأحداث أوسع ومراجعة حجمهم الحقيقي).

س3: ما الفعل الأول الذي يُلح علىّ الآن؟

أن أصرخ .. أقاطع .. أضرب .. أو أنسحب فجأة (إدراك النزعة الاندفاعية يضعها تحت الضوء والوعي بدل أن تعمل آليًا)

س4: لو نفذت هذا الفعل فورًا، ما الذي سيحدث خلال دقائق أو ساعات؟

قد أخسر شخصًا مهمًا، أو أنجرف إلى خلاف أكبر ثم أندم بشدة (هذا السؤال يفتح نافذة زمنية على المستقبل لتقدير العواقب، وهي مهارة يضعف فيها الدماغ ويغفل عنها أثناء الاندفاع)

س5: ما الفعل البديل الذي يمكن أن يخفف عني دون أن يؤذيني؟

أن آخذ نفسًا عميقًا وأطلب دقيقة للتفكير، أو أن أؤجل الرد إلى وقت لاحق (هذا يولد استجابة بديلة منظمة تحافظ على العلاقة والهدف)

س6: ما الفعل الذي ينسجم أكثر مع أهدافي طويلة المدى؟

الحفاظ على هدوئي، والتعبير عن مشاعري بلغة واضحة، واختيار وقت أنسب للحوار.

عند تكرار هذا التمرين عدة مرات، يتعود الدماغ على المرور بخطوة تفكير إضافية قبل الفعل، ومع الممارسة، يتحول رد الفعل من اندفاعي قصير المدى إلى استجابة متزنة طويلة المدى، مما يحمي العلاقات ويقلل الندم ويزيد من الشعور بالتحكم والسيطرة الذاتية.

في النهاية، إدراك المشاعر وتنظيمها يحولها من قوة ضاغطة تقودنا بلا وعي، إلى إشارات واضحة تساعدنا على الاختيار بوعي. ومع التدريب، يتحول الاندفاع إلى استجابات أكثر اتزانًا تمنحك تحكمًا أكبر في حياتك وعلاقاتك.


لتعلُّم المزيد حول المشاعر، اشترك في دورة "مهارات تنظيم المشاعر" مع أ/داليا سرحان على منصة بالعربي توداي.

https://belaraby.today/slides/tnzym-lmsh-r-20