لماذا نشعر فجأة أننا ارتكبنا خطأ؟

كتابة: أ. ندى رأفت تحرير: د. مروه عزت

هل مررتَ من قبل بلحظة بدا فيها كل شيء عاديًا… لكنك شعرتَ فجأة بالقلق؟ لا خلاف، ولا كلمات قاسية، فقط رسالة جافة قليلًا، نبرة صوت مختلفة، أو تأخر بسيط في الرد، وفجأة، يبدأ عقلك في طرح السؤال المؤلم: "هل فعلتُ شيئًا خطأ؟"

هذا النمط من التفاعل ليس ضعفًا ولا مبالغة، بل هو أثر شائع عند كثير من الناجين من صدمات نفسية وعاطفية، خصوصًا أولئك الذين اعتادوا منذ الصغر أن الحب يُكتسب عبر إرضاء الآخرين وتحمّل مسؤولية مشاعرهم.

عندما يرتبط الحب بالخوف

"عندما يفقد الجسد الأمان، يظلّ الدماغ في حالة تأهب، حتى بعد أن يزول التهديد."

في البيئات التي يغيب عنها الأمان العاطفي، يتعلم الطفل أن الحب مشروط، وأن عليه أن "يكون جيدًا" حتى لا يُرفَض، أو أن يُرضي الآخر دومًا حتى لا يُنتقد أو يُتجاهل. ومع التكرار، تصبح مراقبة تعبيرات وجه الآخرين، نبرات صوتهم، وحتى الصمت، وسيلة للبقاء العاطفي. فيتحوّل أي تغيّر – مهما كان بسيطًا – إلى "إشارة خطر".

يكبر هذا الطفل وهو يحمل في داخله منظومة عصبية مشحونة باليقظة، تنتظر التهديد حتى في غيابه. فجأة، لمجرد أن الطرف الآخر يبدو أكثر هدوءًا، أو أن الرسالة لم تكن مصحوبة بالوجوه التعبيرية كالمعتاد، يشعر هذا الشخص وكأنه أخطأ، حتى لو لم يكن هناك أي دليل على ذلك.

الجهاز العصبي لا ينسى

"الصدمة ليست ما حدث لنا، بل ما نحمله داخلنا حين لا نجد من يتعاطف مع ألمنا."

تشرح أبحاث علم الأعصاب أن المخ الذي تعرّض لصدمات عاطفية متكررة يصبح أكثر حساسية للمثيرات العاطفية، ويطوّر استجابات دفاعية حتى في غياب التهديد الحقيقي. هذه الاستجابات تنشأ من "اللوزة" (Amygdala)، التي تسجل الخبرات السابقة كدروس بقاء. فحين يواجه الشخص موقفًا أو مشهدًا شبيهًا بالماضي – حتى لو لم يكن مطابقًا – يُطلق جرس الإنذار.

تخيّل الأمر كجهاز إنذار حساس للغاية، يُطلق الصوت لمجرد مرور نسمة هواء، لأنه تعلم في الماضي أن "الهواء" قد يعني "عاصفة".

ما بين الذنب والاحتراق العاطفي

 "إذا استطعت أن أجعلهم سعداء، فربما يصبح كل شيء بخير"

في هذه اللحظات، لا يقتصر الأمر على الخوف من الرفض، بل يظهر إحساس عميق بالذنب، وكأن الشخص مسؤول عن مشاعر الطرف الآخر دائمًا، وقد يبدأ في تفسير كل شيء بناءً على هذا التصور: "ربما قلتُ شيئًا خاطئًا"، "ربما لم أكن كافيًا"، "ربما لم أظهر الحب بشكل واضح".

ومع الوقت، يتحوّل هذا النمط إلى إنهاك داخلي، حيث يشعر الشخص بأنه لا يستطيع أن يسترخي أبدًا، دائمًا هناك قلق من أن "يفسد شيئًا".

إعادة البرمجة: هل الشفاء ممكن؟

"الصدمة حقيقة من حقائق الحياة، لكنها لا يجب أن تكون حكمًا مؤبدًا"

الخبر الجيد أن هذا النمط يمكن تغييره، لكنه لا يبدأ من محاولة إرضاء الآخر أكثر، أو من تحليل الرسائل مئة مرة، بل من إعادة بناء العلاقة مع الذات والجهاز العصبي.

في العلاج النفسي، خاصة المعتمد على الصدمات (Somatic Experiencing)، يتعلم العميل كيف يلاحظ إشارات جسده، ويهدّئ استجابات الخوف تدريجيًا.، كما تُساعده الأساليب القائمة على اليقظة الذهنية (Mindfulness) على التفرقة بين "الماضي" و"اللحظة الحالية" .. "هنا و الآن" بين خطر سابق، وتجربة حالية لا تهدد سلامته.

ماذا يمكنك أن تفعل عندما تشعر بأنك "أخطأت"؟

"المفارقة العجيبة هي أنه عندما أقبل نفسي كما أنا، أستطيع أن أتغيّر"

  • توقّف وتنفس ببطء: دع عقلك يدرك أنك لست في خطر.
  •  ذكّر نفسك بالواقع: "لا يوجد دليل على أني فعلت شيئًا خاطئًا."
  • اكتب ما شعرت به: لا لتحليل الطرف الآخر، بل لفهم نفسك.
  • تواصل بصدق: إذا شعرت بعدم الأمان، يمكنك أن تسأل شريكك أو صديقك عن شعورهم، دون اتهام أو لوم.
  • اطلب الدعم إذا احتجت: لا عيب في الحديث مع معالج نفسي يساعدك في فهم جذور هذا الخوف.

"أن نتقبّل قصتنا بكل ما فيها ونظلّ نحبّ أنفسنا أثناء ذلك، هو أسمى أشكال الشجاعة."

أحيانًا، لا نحتاج إلى شخص يقول لنا "أنت لم تخطئ"، بقدر ما نحتاج إلى أن نصدّق هذا الصوت داخلنا.

أن نكون لطفاء مع أنفسنا، ونتفهّم أن بعض ردود أفعالنا ليست "دراما"، بل بقايا معارك قديمة خضناها لننجو.

ومع الوقت، ومع الأمان، يمكن أن يتغيّر هذا الإحساس العميق بالخوف إلى إدراك أعمق للذات… وإلى علاقة صحية مع النفس والآخر.


للمزيد حول الاستجابات الجسدية للصدمات، اشترك في دورة "كيف يفكر جسدك في الصدمات والقلق" مع د. رضوى وليد

https://belaraby.today/slides/kyf-yfkr-jsdk-wqt-lqlq-w-lsdmt-29