سيكولوجية التسويق: لماذا نشتري بقلوبنا قبل عقولنا؟

كتابة: د. سامر عرفة تحرير: د. مروه عزت

حين نقف أمام رف مزدحم بالخيارات، من الهواتف الذكية اللامعة إلى عبوات القهوة الفاخرة، قد نتصور أن القرار عقلاني بحت. لكن الواقع أكثر تعقيدًا: قرارات الشراء تبدأ من العاطفة و الانحيازات السلوكية (Cognitive Biases)، ثم يأتي العقل في النهاية ليضع ختمه الرسمي على ما قررناه مسبقًا.

هذا يغيّر نظرتنا للتسويق؛ فهو ليس مجرد إعلان صاخب أو عرض سعر مغرٍ، بل هو علاقة نفسية عميقة بين العلامة التجارية والعميل. علاقة تُبنى على الثقة، وتستمر كلما نجحت العلامة في الوصول إلى ما هو أبعد من التفكير المنطقي: إلى المشاعر و الذكريات والانطباعات.

وكما أن العلاقات الإنسانية تحتاج إلى تواصل مستمر كي تنمو، تحتاج العلامة التجارية إلى التواجد الدائم في وعي العميل. هنا يفسر علم النفس الاجتماعي ما يُعرف بـ تأثير الأُلفة – Mere Exposure Effect: أى ميلنا إلى تفضيل ما نراه بشكل متكرر حتى لو لم ننتبه لقيمته في البداية. ببساطة، الحضور أمام العميل ليس رفاهية بل ضرورة نفسية.

أربعة مبادئ

بما أن التسويق في جوهره هو علاقة مستمرة بين العلامة التجارية والعميل، فإنه يخضع لنفس مبادئ العلاقات الفعّالة التي تعلمناها في دورة (مهارات العلاقات الفعالة ل أ.داليا سرحان) . ومن أهم هذه المبادئ مبدأ GIVE، وهو اختصار يمكن ترجمته تسويقيًا كالتالي:

  • Be Gentle – كُن معتدلاً
    كما أن اللطف والاعتدال أساس أي علاقة ناجحة، يحتاج العميل أن يشعر أن العلامة التجارية تتعامل معه باحترام وهدوء. الرسائل التسويقية اللطيفة غير المبالغ فيها تُشعره بالراحة، على عكس الضغط والإلحاح المفرط الذي قد ينفّره.

  • Act Interested – تصرّف باهتمام
    الاهتمام في العلاقات يعني الإصغاء للطرف الآخر، وفي التسويق يعني أن تُظهر للعميل أنك تفهم احتياجاته وتتابع مشاكله. على سبيل المثال: المحتوى المخصص أو الرسائل التي تذكر اسم العميل وتجاري اهتماماته تعكس أن العلامة التجارية "تنصت" له فعلًا.

  • Validate – التصديق
    في العلاقات الشخصية نحتاج أن نشعر أن مشاعرنا مفهومة ومقدَّرة. كذلك في التسويق، يحتاج العميل أن يشعر أن اختياراته صحيحة. عندما تقول العلامة "أكثر من 10,000 عميلًا قد جربوا هذا المنتج" فهي لا تبيع فقط، بل تمنح العميل إحساسًا بأن قراره منطقي ومؤيَّد من الآخرين.

  • Use Easy Manner – التيسير
    التبسيط أسلوب ضروري لاستمرار أي علاقة، وفي التسويق يعني أن تجعل تجربة العميل سهلة وبسيطة: موقع واضح، عملية شراء سلسة، لغة مفهومة بلا تعقيد. العلامة التجارية التي "تسهّل" على العميل دائمًا تبني علاقة أطول وأعمق.

رحلة العميل ليست طريقًا مستقيمًا

النماذج التقليدية مثل AIDA، وهو أحد من أشهر نماذج التسويق المستخدمة لوصف المراحل التي يمر بها المستهلك من لحظة انتباهه للمنتج حتى اتخاذ قرار الشراء، حاولت اختزال رحلة العميل نحو قرار الشراء، إلى خطوات متتابعة ذات إتجاه واحد، بينما الواقع أكثر فوضوية. 

كشف تقرير جوجل الأحدث المنتصف الفوضوي - The Messy Middle، أن المستهلك يتأرجح بين مرحلتي الاستكشاف وتقييم المنتج مرات عديدة قبل أن يحسم قراره. هذا التردد لا يعكس ارتباكًا بقدر ما يعكس طبيعة بشرية تبحث عن الطمأنينة وسط زحام الخيارات. وفي هذه المساحة الرمادية بين الاستكشاف والقرار، يشتعل الصراع بين العقل والعاطفة.



شبّه عالم النفس جوناثان هايدت Jonathan Haidt الإنسان براكب على فيل، الراكب يمثل العقل، والفيل يجسد العاطفة. يظن الراكب أنه يقود، لكن في لحظة إثارة عاطفية، ينطلق الفيل حيث يشاء، ثم يتدخل العقل لاحقًا ليبرر ما حدث. وهذا بالضبط ما يجعل إعلانًا مؤثرًا عاطفيًا أقوى من عشرات المقارنات المنطقية.

الانحيازات السلوكية

ومن هنا يمكن أن نفهم دور الانحيازات السلوكية (Behavioral Biases) في تشكيل قراراتنا اليومية:

  • انحياز الندرة – Scarcity Bias: حين نُخبَر أن "العرض ينتهي الليلة"، نشعر بخوف الفقدان و نتصرف بسرعة.

  • قوة المجاني – Power of Free: المنتجات المجانية تُقيّم أعلى بكثير من قيمتها الفعلية. مثال: شحن مجاني قد يحسم قرار الشراء أكثر من خصم سعري كبير.

  • قوة اللحظة – Power of Now: البشر يميلون لتفضيل الفائدة الفورية على المستقبل. مثال: "ادفع فورا و استلم دورتك المسجلة"

  • القواعد الاختصارية للفئة – Category Heuristics: تبسيطات ذهنية نتخذ بها القرار سريعًا، مثل قاعدة "عدد الميجابكسل في الكاميرا = جودة أفضل".

  • انحياز الدليل الاجتماعي – Social Proof Bias: عبارة مثل "أكثر من 10,000 عميل جرّبوا المنتج" تمنحنا شعورًا بالأمان، وكأن الآخرين قرروا بالنيابة عنا.

  • انحياز السلطة والخبرة – Authority Bias: عندما يظهر خبير أو طبيب أو شخصية مشهورة في إعلان، نصبح أكثر استعدادًا للتصديق. و من هنا تأتي قوة بالعربي توداي في إعتمادها على أطباء ومعالجين نفسيين بالفعل مما يضيف مصداقية وثقة كبيرتان.

  • انحياز الارتساء – Anchoring Bias: أول معلومة نسمعها تصبح مرجعًا نقيس عليه كل شيء؛ إذا عُرض المنتج أولًا بسعر مرتفع ثم خُفّض في خصومات، سيبدو أكثر جاذبية.

  • انحياز كره الخسارة – Loss Aversion Bias: منصّة تعليمية قد تذكّر الطالب: "لقد أكملت 70% من الكورس… لا تدع مجهودك يضيع، أكمل لتحصل على الشهادة." هنا لا يرى الطالب أنه سيربح شهادة جديدة، بل يخشى خسارة ما أنجزه بالفعل.

هذه الانحيازات تكشف أن عمل المسوّق الذكي قريب جدًا من عمل المعالج النفسي: يستمع لمخاوف العميل، يفهم طريقته في التفكير، ثم يعيد صياغة إدراكه ليغيّر سلوكه. وهكذا قد يرى العميل أن المنتج الغالي السعر، استثمارٌ طويل الأمد بدلًا من كونه عبئًا ماديًا، أو أن يطمئن لعلامة تجارية جديدة بعد قراءة قصص وتجارب عملاء آخرين.

في النهاية، ينجح التسويق حين يخاطب العقل والقلب معًا،حيث يقدم للعقل منطقًا مقنعًا وأرقامًا واضحة، وللقلب شعورًا بالأمان والانتماء. المستهلك لا يبحث عن منتج فقط، بل عن إحساس يرافقه،ومن يفهم هذه الحقيقة يبني علاقة لا تقوم على صفقة عابرة، بل على ولاء طويل الأمد.

للمزيد من مهارات العلاقات الفعالة، يمكنك الاشتراك في هذه الدورة مع أ. داليا سرحان

/slides/mhrt-l-lqt-lf-l-18